الانتحاري... ومظلمة وطن
لست هنا في مجال تأييد أو رفض رواية السلطة حول قيام انتحاري بتفجير نفسه داخل الكنيسة البطرسية بالعباسية.. لست هنا في مجال نقد الرواية الرسمية والأمنية بما بها من خلل ولكني هنا سأعتبر نفسي مصدقًا لتلك الرواية وسأرجع بالأحداث قليلاً إلى الخلف؛ لنسأل جميعًا أنفسنا (في حالة صدق الرواية الرسمية) ما السبب الذي دعا هذا الشاب ليقوم بأفظع فعلٍ قد يفعله إنسان في نفسه أن يقوم بقتل نفسه؟ وقتل آخرين معه؟
هذا السؤال يحتاج منا الرجوع إلى بداية القصة من أولها.. هناك في الفيوم يوم 15 مارس 2014 طفل لا يتجاوز عمره 17 عاما في المرحلة الثانوية يلعب مع أصدقائه بالشارع تمر مظاهرة ما, يحدث احتكاك بين المتظاهرين وقوات الامن , لا تجد قوات الأمن من تعتقله فتجر هذا الطفل وصديقه إلى مقر الأمن الوطني بالفيوم يظهر الطفل وصديقه في ذات اليوم في كافة الجرائد الحكومية والخاصة بصورته مكبل اليدين من الخلف وأثرُ التعذيب ظاهر على أنفه التي كُسِرت وأمامه بندقية وقنبلة يدوية وبعض فوارغ الرصاص.
مما ذكر لي من بعض المحامين أن هذا الطفل الذي تعرض للتعذيب لإجباره على تصوير هذا الفيديو تعرض أيضا للتهديد بالاغتصاب.
المفاجأة التي تلت هذا وبعد أكثر من عام من حبس الطفل وفي مايو 2015 يتم إخلاء سبيل الطفل الذي تحوّل الي رجل في السجن، والأهم أن النيابة العامة تستبعد جريمة حيازة السلاح والقنبلة وتنقل القضية إلى جدول الجنح وتكون تهمته الوحيدة (التظاهر بدون ترخيص).. أي أن الطفل الذي أصبح شابًا لم يكن يملك ما زعمته قوات الأمن من سلاح أو غيره, بل هو طفل صغير ساقه حظه ليقع في يد من لا يرحم لتبدأ سلسلة تحويله من طفل أو شاب عادي جدًا لا علاقة له بأي مجموعة أو تنظيم إلي قاتل، هناك من فعل به أشياء ملأت قلبه شعورا بالظلم ورغبة عارمة في الانتقام من الجميع.
صناعة الظلم هي صناعة ناجحة في مصر بشكل كبير, بدأت بوادره منذ حوالي ثلاث سنوات وزادت وتيرتها لتستطيع إجراءات وأفعال الأجهزة الأمنية أن تحول الكثيرين إلى مشاريع جاهزة للعنف ضد المجتمع .
ولكن القصة لم تنتهِ هنا بل زادت تعقيدًا, فبدلاً من أن يستوعب النظام بكل أطرافه وسلطاته أن هذه المظالم التي صنعت في السجون هي السبب , بدأت السلطة ترتكب أخطاءً أخرى, بتصريحات نحو تعديلات دستورية وقانونية تمكن السلطة من إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري لمحاكمتهم وتعديل قانون الإجراءات الجنائية ليقتصر إجراءات التقاضي, وكأنّ محاكمة 11 ألف مصري أمام القضاء العسكري من نوفمبر 2013 وحتى الآن لا تكفي, وأنّ كافة المخالفات القانونية والدستورية التي تتم ويتراكم بفعلها الظلم الاجتماعي لا تكفي .
وكأن الاستثناء تحول إلى أصل وأنَّ رغبة النظام في التشفي من فئة ما سيحول بها الاستثناءات إلى أصول قانونية يقدم بها كل من يخالفه إلى قضائه المختار, وينهي بها درجات التقاضي ويكون لمحكمة النقض سلطة الفصل المباشر في كافة القضايا وليست قضايا ذات نوعية معينة أي أنَّ هذا التعديل سيسري على كافة المواطنين, لتتراكم المظالم ويصنع النظام بيديه أعداءً جددا, ستكون رغبتهم في الانتقام من واقع الظلم أكبر من قدرتهم على حب وطن قد تخلي عنهم وتركهم ألعوبة في يد سياسيين لا يريدون إلا أمان أنفسهم وليس أمان الوطن.
في النهاية أحب أن أؤكد أنَّ السجون لا تصنع أوطنًا ولا تخرج مبدعين, السجون ليست للجدعان أو الرجال كما يزعم البعض، السجون دائما تملأ القلوب حنقا وغلا ورغبة في الانتقام, أن لم تكن لدينا قدرة على وقف المظالم والتوقف عن حشر السجون بأبناء الوطن وبالأبرياء, والتوقف عن سياسة التلفيق, وتقليل حدة الاحتقان المجتمعي فأظن أنّ الوطن هو الخاسر الأكبر.
أوقفوا الظلم ليحيى الوطن